سعر الصرف بين المزايدات السياسية و ممارسات الادارة
6-9-2021 11:47:12 PM
سعر الصرف بين المزايدات السياسية و ممارسات الادارة
للدكتور عبد الباسط تركي سعيد
الان وبعد ان توقفت المناقشات التي دارت بشأن تغيير سعر صرف الدينار العراقي والتي ساد في اغلبها الجدل غير الموضوعي فقد ان الأوان لمحاولة التعريج عليه وضرورة إيضاح وتكرار ما كنا قد بيناه ومنذ عام 2015 ,حيث كانت الموازنة العامة في حالة فائض وكان الايراد العام وعوائد النفط بخاصة تسمح بمعالجة الاضرار التي ستحيط بالطبقات الهشة ومحدودة الدخل من المواطنين اذا ما جرى هذا التغيير ، كان التطرق لذلك الامر هو لضرورة تتطلبها السياسة الاقتصادية ومحاولة إعادة تنشيط قطاعات الإنتاج السلعي (الزراعة والصناعة والخدمات المرافقة لهذه الأنشطة )في ضوء حجم البطالة المخيف سواء بالنسبة لمن هو في سن العمل من العراقيين او بالنسبة لتشغيل واستخدام الفرص والموارد الاقتصادية الأخرى المتاحة و درء ظاهرة استفحال الاعتماد على الاستيراد (اصبح بلد النهرين يستورد مياه الشرب من بلدان ليس فيها انهار)وما يعكسه ذلك من اثر على استقلاليه وتنوع الاقتصاد فضلا عن ما يوفره من امن غذائي للعراق .
كنا في حينه نتوقع ان الإشكالية التي ستواجه هذا القرار سيكون مصدرها قلق متخذ القرار من خطورة أثر تغيير سعر الصرف على المستوى العام للأسعار في البلد وكذلك موقف الجهات الدولية ذات العلاقة وبخاصة صندوق النقد الدولي منه بالإضافة الى ان اثاره الإيجابية لن تكون واضحة في الاجل القصير في حين ان متخذ القرار السياسي العراقي معني بالآجال القصيرة ....وأحيانا تكون التوقيتات اليومية شغله الشاغل.
وكان توقعنا في محله تماما سيما بعد ان اخذ مستشارو المديونية المحيطين بمكتب رئيس الوزراء يعظمون من مخاطر ذلك وأثره على الوضع السياسي، ولضمان تمويل الموازنة بالبديل الأسرع وبدون تكلفه سياسية انيه فقد اخذوا بوسيله الاقتراض (المديونيه الداخلية والخارجية) التي تدفع ثمنها الأجيال القادمة ومستقبل الاقتصاد العراقي.
رغم ان كل المقالات التي نشرناها او الرسائل التي وجهناها كانت تقترح اليات لمعالجه سلبيه الاثار التي سيتركها ذلك التغيير، وما يتطلبه من خطة متكاملة تعتمد أولا المحافظة على مستوى من الدخل الحقيقي للفرد لا يقل عما توفره (حقيقة )مواد البطاقة التموينية بعد إضافة مواد أخرى لتصبح ثمان مواد ولتشمل كل العراقيين بغض النظر عن مستوياتهم الداخلية.
ويترافق ذلك مع خطوات معلنة للسياسة النقدية في تغيير سعر الصرف والتي يجب ان يقودها حصرا البنك المركزي. أي ان تكون هناك خطة وطنية تحدد فيها الأهداف ومراحل إنجازها وتحدد كلفها والشرائح التي تتحمل وزر ذلك، الا ان كل ذلك لم يؤخذ به.
من الفيد التذكير بان المصدر الرئيس والذي يمكن اعتباره الوحيد دون تردد للعملة الأجنبية في العراق هو ما يدخل الى الخزينة العامة من موارد نتيجة لتصدير النفط الخام العراقي ولذا فان الحكومة العراقية ومن خلال وزارة المالية هي المحتكرة للعملة الأجنبية (الدولار غالبا) ولكي تقوم بتوفير الدنانير العراقية (العملة الوطنية) للأنفاق المحلي فهي تقوم بشراء هذه الدنانير من محتكر اخر (للدينار) هو البنك المركزي. ولان الإيرادات من العملة الأجنبية ليست هي المعتمدة في الانفاق المحلي ولان الموازنة العامة العراقية لا تصدر كقانون الا من خلال بنودها المحتسبة بالدينار العراقي فان موارد الخزينة العامة من الايراد النفطي سيحدده البنك المركزي عبر سعر الصرف لكل دولار توفره الخزينة العامة والذي كان يقيم الدولار(يشتريه من وزاره المالية ) بسعر 1180 دينار، ثم قامت وزارة المالية بتقويم ما تمتلكه من عملة اجنبية (تشتري به دنانير) بسعر جديد هو 1450 دينار لكل دولار وفقا لقانون الموازنة العامة لسنه 2021وبذلك فإنها أصبحت تستطيع إنفاق 1450 ألف دينار مقابل كل 100 دولار بينما كانت تنفق 1180 ألف دينار مقابل ذلك في قوانين الموازنة العامة في السنوات السابقة.
كان هذا هو ما حدث فعلا وكان ذلك هو الهدف الرئيس من التغيير، والذي اتفقت معه قرارات البنك المركزي.
لم يكن الاجراء المتخذ بتغيير سعر الصرف هو لغرض التصحيح الاقتصادي المرجو ولم يقر عبر خطة اقتصادية (كما بانت معالمها التنفيذية )وهنا انبرى من كان يعارضنا عندما نتطرق للأمر الى الحديث الان عن (تصحيح سعر الصرف) وكانه لم يسمع بالحجج التي كانت تطرح لسنوات خلت من ان السعر السائد هو ليس بالسعر الحقيقي الذي تحدده المتغيرات الخاصة بالاقتصاد العراقي، بل هو سعر يجري الالتزام به بقرار اداري صرف. وصاحب الاثر الأكبر في استقرار هذه الاقيام أيضا , وهكذا وبعد ان تراجعت أسعار النفط بشكل كارثي في عام 2020 وتسرب جزء مهم من مصادر الإيرادات السياديه الأخرى خارج الموازنة العامة (دون وصولها للخزينة العامة ) أصبح لا مفر امام الإدارة المالية سوى تغيير سعر الصرف لغرض ايرادي , ولان قانون موازنه عام 2020 لم يصدر فقد رحل قرار وزاره الماليه الى السنه التالية .
الان وفي ظل تعافي ألاسعار العالميه للنفط فان على الإدارة الاقتصادية في العراق ان تباشر في تنفيذ خططها للسياسة المالية في تأمين إيرادات الموازنة العامة عبر مواردها التقليدية ومغادرة الاعتماد على تغيير سعر الصرف او الاقتراض الفعلي من البنك المركزي او رواتب الموظفين والسعي الجاد لضمان التصرف الرشيد في أوجه الأنفاق العام (وليس تقليص الانفاق) وان يجري التعامل مع تغيير سعر الصرف عبر خطه (نقديه) متوسطة المدى لا يستبعد فيها البنك المركزي الاثار الاقتصادية والاجتماعية بعيده المدى ,,,,وبخلافه فان الإدارة سوف تستمر بمزيد من المديونية ومزيد من الاقتطاع من الدخول الحقيقية لمحدودي الدخل عبر تصعيد معدلات الاستقطاع الضريبي واستمرار تغيير سعر الصرف والهروب من مواجهه الاشكالية الرئيسة الى الحل الوحيد الذي لايمكن تفاديه بعد ان تكون قد تخلت كل فعليا عن كل المساحة التي تتيحها فرصه الوفر المالي للإصلاح الهيكلي .
نشرت في جريدة العالم بتاريخ الثلاثاء 7\9\2021
العدد (2739)