الموازنة العامة لعام 2017 ((ما لها وما عليها))
9-3-2020 10:08:56 PM
ـــ ماذا تؤشر موازنة عام 2017؟ والى أين يتجه الاقتصاد العراقي؟
ـــ ما هي أبعاد أزمته الحالية ؟ وما هي الآليات التي تعمق هذه ألازمة؟
كما هي الموازنات السابقة فان موازنة عام 2017 كانت تؤشر عجزا مخططا بلغ 21.66 تريليون مقابل 24،2 تريليون و 25،4 تريليون دينار عراقي للسنوات 2016 و2015 على التوالي كما يشير الجدول التالي (مليار دينار):
ألسنه النفقة المعتمدة الإيراد المعتمد فجوة العجز نسبه العجز إلى النفقة نسبه العجز إلى الإيراد
2015 119462 94048 25414 21 27
2016 105896 81701 24195 23 30
2017 100671 79011 21660 22 27
و إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار مقارنه الإيراد الفعلي المتحقق من بيع النفط للأعوام 2014 و2015 و2016 باعتباره المصدر الرئيس لإيرادات الموازنة ألعامه فمن المتوقع أن يبلغ العجز الفعلي (وليس المخطط) أكثر مما بلغه في الأعوام السابقة فقد انخفض الإيراد النفطي من 79،3 مليار دولار إلى 43.1 مليار ثم 28،1 مليار دولار لتلك الأعوام (2014 و2015 و2016 على التوالي ).
وللاقتراب أكثر من هذه المشكلة فان معدل سعر البرميل الواحد في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2016 كان اقل من 25 دولار وباحتساب كلفه إنتاج البرميل الواحد حاليا يتضح حجم الفجوة الايرادية المتوقعة , من المعروف أن العجز يتأتى إما من تراجع الإيراد أو بتزايد الإنفاق للموازنة العامة أو بالاثنين معا. ولان عوائد النفط المصدر تشكل في الغالب نسبه تمويل تتجاوز الـ 90% لهذه الموازنة ولأغراض توصيف المشكلة فان تراجع الإيرادات يمثل العامل الحاسم في وجود هذا العجز, وهو ما يحصل فعلا باستمرار في العراق اما مباشر من خلال الانخفاض الفعلي للإيراد او غير مباشر من خلال ما تخلفه وفرة الايراد من دافع الى عدم الرشادة في الانفاق.
وتشير الوصفات التقليدية في السياسات الاقتصادية الى ان مواجهة العجز تتم بمحاولة تعظيم البدائل الايرادية وتخفيض الانفاق العام وهذه الوصفه الجاهزة هي ما جرى الاخذ بها في موازنة عام 2017 سواء بطلب صندوق النقد الدولي ام وفقا لتصورات الادارة المالية العراقية. فتم بناء جداول لمبالغ مالية لا تصلح في احسن الاحوال الا لمواجهة تمويل تشغيل الحكومة حيث استمر النظر للموازنة العامه باعتبارها صندوق تمويل فقط .
نعم الكل يدرك ان الظرف في العراق استثنائي والحديث عن حجم التحديات لم يعد خافيا على احد, ولكن ألا يدفعنا ذلك الى ان نعي بان الاهم ان ينظر الى الموازنة العامة ليس ببعدها الاقتصادي وحسب بل وأثرها الاجتماعي ايضا ألا تستحق التحديات التي يتكلم عنها الجميع اما بقناعه او لغرض التسويق ان تصاغ الموازنة العامه بشكل يؤدي الى التشغيل الكفء للموارد المتاحة لدفع الاقتصاد خارج ازمته والمجتمع بعيدا عن بعض توتراته المرافقه للكساد والبطالة والتعطيل.
الاكثر اشكالا في تلك المعالجه هي الاليات المعتمده في مواجهه هذا العجز ،فمن الناحية المالية اعتمد في مواجهته الى مزيد من المديونية الخارجية اضافه الى التوسع في الاستدانة من المصارف التجاريه سواء العامه منها والخاصة مع اصرار على الاستمرار في ضغط الانفاق . اي مزيد من البطالة والكساد؟
وعند مراجعه تطور هذه المديونية والتي يقدر (المتفائلون) انها قد بلغت 110 مليار دولار, فان ذلك يعني ان الموازنة العراقية في وقت ليس ببعيد عليها ان تسدد سنويا اقساط هذا الدين وفوائده ومع استمرار ذات التوجه (الذي يرى الموازنة العامه عبارة عن صندوق تمويل للحكومة فقط) فان هذه المديونية سوف تستمر بالازدياد (رصد في موازنة عام 2017 لمواجهة خدمة الدين اكثر من تسعه تريليون دينار), الغريب ان من يدافعوا عن هذه السياسة يتناسون تماما كلام اساتذتهم قبل اكثر من اربعمائة سنة من (ان الدين شر وان الدين العام هو شر بمعنى الكلمه), لا توجد ديون بغير شروط والكلام عن الديون الميسره هو كلام عن الكميات النقدية وليس عن ما يترتب من منح وامتيازات وإغراءات مقابله للجهات المقرضه وكلما ازداد الظرف الاستثنائي الذي يعيشه العراق تعقيدا , كلما ضعفت فرصته في المساومة والتفاوض للاقتراض.
العالم يدرك ما في العراق من فرص استثمارية مستقبلية, في نفس الوقت الذي يعرف طريقه مواجهه الادارة المالية في العراق للازمة وربما يدفع لاعتمادها, لا توجد قروض من المنظمات الدوليه بدون شروط, ومن خلال التجربة المباشرة وقراءات التجارب الدولية القريبة فان ذلك يعتمد على قوة المفاوض الوطني التي تنبع بالدرجة الاساس من مصداقيته في التوجه نحو الاصلاح المالي والاقتصادي؟
عندما منح صندوق النقد والبنك الدولي قروض الاخيرة للعراق, هلل البعض ليس للقرض نفسه بل لان ذلك سوف يدفع المقرضين الآخرين للوثوق والاستنتاج بان العراق يتجه نحو اصلاح جدي في السياسة المالية والنقدية سيشرف عليه ويتابعه صندوق النقد الدولي.
ولكن المتوقع هو غير ذلك, (واتمنى ان اكون مخطأً فالعراق لا يحتاج مزيد من الاشكالات).
كنا نعتقد ان سعر برميل النفط سوف يعاود الصعود الى ما كان عليه قبل 2014 وبذلك يتجاوز ازمته التمويلية في حين تشير التوقعات الاكثر واقعية ومقتضيات هذا العام ان تدفع لبيع بسعر يفوق الـ 42 دولار امريكي للبرميل وهو السعر المعتمد عند وضع تقديرات الموازنة العامة لعام 2017, والذي يعتبر منطقيا بعد ان اقترب السعر الفعلي للبرميل من ذلك كثيرا في الشهور الاخيرة لعام 2016 لكنه لن يعاود ما كان عليه عند عتبة الـ100دولار للبرميل, ولا يذهب المتفائلون لأبعد من وصول سعر بيع برميل النفط العراقي لأكثر من 55 دولار لهذا العام, وإذا ما اخذنا بنظر الاعتبار كلفه انتاج البرميل الواجب سدادها للشركات المساهمه في جولات التراخيص فان المبلغ الصافي الذي سيدخل الخزينة العامة سوف يقترب من 35دولار للبرميل ومع ازدياد الحاجه للإنفاق العسكري والأمني فان فجوة العجز الفعلية سوف تستمر, ومع كل التوجهات المعلنة لزيادة مصادر الايرادات غير النفطية فان ثاني مصادر الايرادات الان هو التعرفة الكمركية ويشير الواقع الفعلي الى ان المنافذ الحدودية تتجه للابتعاد عن تغذيه الخزينة العامة يوم بعد يوم ومن المتوقع تراجع تحصيلاتها, فقد اصبحت امتياز للمحليات على حسب كونها سيادية وفي كل يوم تنشر وسائل الاعلام قصص وحوادث تشير الى تراجع السيطرة الاتحادية على هذه المنافذ, وكذلك الامر بالنسبة للضرائب الاخرى .فالتحصيل الضريبي مهما تنجح الادارات في تجاوز السلبيات التي يعيشها، فهو يعتمد على فاعلية النشاط الاقتصادي وشفافية البيانات التي يولدها هذا النشاط.
ويدرك الجميع ان النشاط الاقتصادي في تراجع مستمر اضافه الى السعي الجاد للمنشئات الخاضعة للضريبة لسلوك اي من سبل التهريب الضريبي المتاحة, وتبقى الشرائح الدخلية للموظفين والأُجراء المنتظمين مصدر يتحقق اداريا بعيدا عن كفاءة مصادر هذه الضرائب, ومع ازدياد الحاجه للإنفاق الامني العسكري ولا حقا لإعادة الاعمار وعوده النازحين تصبح امكانية ضغط الانفاق العام المتاحة هي باتجاه ضغط الخطة الاستثمارية للقطاع العام حيث اولا يأخذ تمويل الموازنة الجاري (التشغيلية) من رواتب وأجور والتزامات دوليه الجزء الاكبر من هذا التمويل .وبذلك نستمر في تأمين اموال لإنفاق لا يحقق، في ظل الكساد والفوضى الاقتصادية لاقتصاد مكشوف على الخارج بشكل كبير، اي عائد مهم او عائدا مستقبليا مؤثرا في دفع عمليه الاقتصاد.
وببساطة نحن بحاجه الى تشغيل الاقتصاد وإدارة جهاز الدولة لتقديم الخدمات الاساسية للمواطنين في ظل ازمات اجتماعيه وسياسيه واقتصاديه ,ما تم اللجوء اليه هو المزيد من الاقتراض والذي يعني عند افتراض تحسن اسعار النفط وتطوير اداره الاقتصاد ان العراق سيكون قادر على سداد الديون ولكن على حساب فرص التنمية والبناء للمستقبل القريب وللأجيال القادمة ومع استمرار سعر الصرف الحالي للدينار العراقي (اضافه الى الوضع الامني والإداري السائد) فأن فرص جذب الاستثمار الاجنبي يعد مكلفا قياسا بفرصه في المناطق الاخرى بما في ذلك الدول الاقليمية التي تتأثر بالتوترات السائدة في محيطها الان.
ان استمرار التشبث بالحل عن طريق الاقتراض وتخفيض الانفاق العام دون تغيير سعر صرف الدينار العراقي في تأمين ايرادات لتغطيه الانفاق الآني للدولة سيؤدي سريعا الى المزيد من الكساد الاقتصادي وتآكل الموجودات الاجنبية وبخاصة احتياطي البنك المركزي العراقي، بالاضافة الى كل اشكالات المديونية العامة ومساوئ المديونية الخارجية منها بالذات، سيما وان اللجوء الى قرارات ادارية (فرض التعرفة الكمركية, زيادة رسوم, الجباية الضريبية) في ظل جهاز اداري (غير كفء). حيث تشير التجربة الى ان هذه الجهاز سوف يجد في هذه القرارات فرصه لمزيد من الاثراء الشخصي على حساب النشاط الاقتصادي ودخل القطاع الخاص والتي يجري نقل عبئها لاحقا على كاهل المواطن البسيط. اضافة الى ما تسهم به هذه القرارات في المزيد من التعقيد الاداري في ظل وضع هو معقد اصلا, ومن المتوقع ان يعارض تغيير سعر الصرف مجموعتان الأولى تستند الى ان تغيير سعر الصرف في كل التجارب يترافق مع ارتفاع في معدلات تضخم تصل في بعضها مستويات عالية قد تتجاوز معدلاته لأكثر من عشر سنوات سابقه وما ينتج عن ذلك من اضطراب اجتماعي وربما سياسي اذ ان الشريحة التي تتأثر بشكل كبير بالتضخم هي شريحة محدودي الدخل حيث تتآكل دخولها الحقيقية, وعند القول بان كل التجارب تشير الى ارتفاع معدلات التضخم فهذا يعني انه ضرر قبله متخذ القرار مضطرا لتجاوز ضرر اكبر واعد له ما يتاح من ادوات للحد من اثر هذا الضرر, السياسة الاقتصادية هي اختيار بين بدائل وفي ظل الازمة هي اختيار بين بديل سيء وآخر اكثر سوء والأمر يتعلق بمن يسوس هذه الازمة سيما وان معدلات التضخم في العراق هي تتجه الى الانخفاض باستمرار لدرجه انها تسهم في مزيد من عدم تشغيل كفء للموارد الاقتصادية لتراجع الاسواق المتاحة باستمرار.
وبعد التجربة المصريه الاخيرة خفقت حجج اخرى كانت ترى ان صندوق النقد الدولي لا يوافق على تغيير سعر الصرف في حين رحب الصندوق ودعم مصر عندما عومت سعر صرف الجنيه المصري وانعكس ذلك بزيادة دخول العملات الاجنبية الى مصر بسبب هذا التعويم , بعد ان اصبحت تحقق عائدا اكبر من الاسواق الاخرى وبخاصة في مجال الاستثمار العقاري وتحويلات المصريين في الخارج .
ان صندوق النقد الدولي يطالب بسياسات تدعو الى استقرار الاسعار ولكن وفق الاسعار الحقيقية, كيف يمكن ان يستمر بالدفاع عن سعر صرف مدعوم ؟ ولأي حد يستطيع احتياطي البنك المركزي في الاستمرار في دعم هذا السعر؟؟
اما المجموعه الاخرى فهي المجموعة المستفيدة من استمرار سعر الصرف على ما هو عليه من خلال انخفاض اسعار وكلف الاستيراد للمنتجات والخدمات الاجنبية قياسا بكلف المنتج المحلي طالما ان الاستيراد يتم من الناحية الفعلية بسعر صرف مدعوم بالإضافة الى ما تحققه المضاربة من ارباح وعوائد لهم من خلال الفرق بين اسعار الصرف، وحجج هؤلاء لوحدها تدفع الى ضرورة تغيير سعر الصرف بشكل جدي ومؤثر بما يضمن اعادة تشغيل في الامد القصير للقطاع الحرفي والصغير والقطاع الزراعي وعلى الامد المتوسط القطاع العقاري والخدمات السياحية ووصولا في الامد البعيد الى استقرار التقانة المتقدمة للصناعة المتوسطة والثقيلة وتحديث القائم منها عبر الجدوى الاقتصادية التي سيخلفها تعديل سعر الصرف وما يمثله ذلك من تأثير في القضاء على البطالة وما يترتب عنها من مشاكل اجتماعية.
لقد جعل الكساد الاقتصادي من الوظيفة العامة الفرصة الوحيدة المجدية لتشغيل الأيدي العاملة, وفي ظل الامتناع الحكومي في الاعوام الحالية عن التوسع في هذه الفرص اما بسبب التوجه لضغط الانفاق العام او بناء على طلب صندوق النقد الدولي فأن هذه الفرص الحكومية للتشغيل ستستمر بالتضاؤل وتستمر افواج الشباب العاطلة بالازدياد.
وبالعودة لكفتي الموازنة العامة فأن تغيير سعر الصرف سوف يضمن للموازنة العامة موارد ماليه تتجاوز فجوة عجزها الفعلية دون الحاجة الى هذا الكم المؤذي من الدين العام وهو ما يتوجب التفكير الجدي به طالما ان ذلك مؤثرا الآن في حين قد لا يكون كذلك في ظرف وتوقيت اخر.