الازمة وآليات المعالجة مرة أخرى !!!!
14-3-2020 8:26:01 PM
نشرت هذه المقالة في جريدة المشرق في 16\11\2015 (بتصرف)
الازمة وآليات المعالجة مرة أخرى !!!!
ماذا بعد مناقشات صندوق النقد الدولي ومحاولة الاقتراض منه للمساهمة في حل إشكالية عجز الموازنة العراقية ؟؟ ماهي المبالغ التي يمكن للصندوق تقديمها لسد هذا العجز ؟؟؟ وما هي الآليات التي يرى ضرورة العمل بها في السياسة الاقتصادية للعراق لضمان قبوله منح هذا القرض ؟؟
تعاني الموازنة العامة سواء كانعكاس لعدد العاملين في الوظائف الحكومية والمتقاعدين منهم أو المهام التي أوكلت لها تاريخياً من توسع ملحوظ في الانفاق العام وكان مصدر هذا التوسع طريقة الادارة السياسية في النظر الى الحكومة باعتبارها سلطة وليس أدارة تقديم خدمة وهذه الخطيئة تقود الى النظر الى الموارد بأعتبارها فرص لمزيد من التوسع في السلطات (التسلط) ينعكس بالتعيينات والعقود التي يمكن الحصول عليها من خلال هذهِ السلطة وهكذا تآكل مفهوم عمومية الوظيفة الحكومية وقصدية خلقها وتشريعها لحماية المواطن وتقديم الخدمات لهُ , وقد سمحت وفرة الموارد النفطية بذلك السلوك الريعي السلطوي كثيراً , لذا عندما تعرضت أسعار النفط الى هذا التراجع غير الاعتيادي والمتوقع أستمراره خلال عام (2016) وتآكل الايرادات العامة نتيجة لذلك . ظهرت الازمة المالية على السطح , كانت أزمة اقل من ذلك قد ظهرت عام (2009) الا أن حجم الانفاق العام كان أقل من ذلك الذي نشهدهُ اليوم والاحتياطي الاجنبي المدور في حسابات الحكومة كان أكبر , وساعدت المعاودة السريعة لأسعار النفط بالارتفاع السريع لاحقاً على تغطية هذا العجز وتأجيل الازمة .
سبق أن اقترحنا في 9/7/2015 عبر مقال نشر في جريدة المشرق الغراء آليات نعتقد بضرورتها لمعالجة جوانب من الازمة المالية والاختلال الهيكلي في الاقتصاد العراقي , وقد توقعنا ا تتوالى الاعتراضات على هذه المقترحات وهذا ما حدث فعلاً . وكان مصدر هذا التوقع هو درايتنا بأن المشكلة لا ينظر اليها بحجمها الحقيقي ولا بأسبابها , بل بمعالجة الظاهر من جبل الجليد كما يقال . كانت المعالجات تنصب على تأمين مزيد من الايرادات لتعويض النقص الحاصل في الايرادات النفطية مع تقليص النفقات العامة قدر المستطاع .
وسيقت هذهِ الاليه في أطار الاصلاحات المتخذة لهذه المرحلة , كان التوجه لتعظيم الايرادات متأتي من خلال التوسع في التعرفة الجمركية والضرائب , بالإضافة الى محاولة الاقتراض المحلي من خلال اصدار سندات الخزينة العامة والاجنبي من خلال السندات والاقتراض من الصندوق والبنك الدوليين , وكانت مباحثات عمان مع المنظمات الدولية هذه في أطار الحصول على هذه القروض . اما تقليص النفقات العامة فقد تركز على تخفيض الرواتب الخاصة بالموظفين والذي أقتصر لاحقاً على تخفيض شرائح معينة من الرواتب ( الاسمية ) دون المخصصات وتوقفت مهمة تقليص النفقات العامة الى الادعاء بالسعي لتحقيق العدالة بين الدخول الفردية للعاملين على أن تعالج المخصصات بقوانين لاحقة كأولوية بديل عن هدفها التمويل في تقليص النفقات , بينما كان السعي او التوجه الى أعادة التفاوض مع الشركات النفطية الاجنبية العاملة بشأن حصصها الممنوحة لها بموجب جولات التراخيص وهو أكثر فعالية في تقليص الانفاق العام وبالتالي العجز في الموازنة العامة مما هو عليه الحال في تخفيض الرواتب مثلاً مع ما قد يحمله التفاوض من فرص لتعديل شروط هذه التعاقدات بشكل يحقق مصلحة أكبر للعراق على الامد البعيد .
توقف العمل الان بالتعرفة الجمركية , ومن غير المتوقع الحصول على قروض محلية تتناسب مع أرقام العجز المخطط لتراجع قدرات المصارف الحكومية وليس الخاصة فقط على اقتناء السندات العامة , أما الجهات الاجنبية فقد وضعت شروط قياسية لتسويق وقبول هذه السندات ترهن العراق بمديونية خارجية مؤثرة مرة أخرى مما يدفع الى تأجيل ذلك الاقتراض الآن في الاقل , أما صندوق النقد الدولي فلم تتضمن سياسته السابقة الى ما يشير الى أمكانية المساهمة بتوفير مبالغ تكفي لسد هذا العجز أو نسبة مهمة منه فقد وعد بمبلغ (1,2 مليار دولار ) قابل للزيادة في حين من المتوقع أن يتجاوز العجز المخطط (20 مليار دولار ) , مع الشروط التي يضعها على السياسة الاقتصادية ويوجب الالتزام بها مترافقة مع شروط تفعيل القرض . هذا ما توقعناه عندما أشرنا في المقالة التي نشرت في جريدة المشرق الغراء بتاريخ 9/7/2015 بأن كل هذه الادوات غير فعالة في معالجة الازمة وستكون ربما معطلة أيضاً , هناك وجهات نظر كانت تدافع عن هذه الآليات وتدعو للأخذ بها وقد ثبت لحد الآن فشلها في ظل الظرف الحالي . لنتفق على ما هو بديهي بالنسبة للسياسة الاقتصادية ان ظل الازمة يكون الاختيار بين البدائل على أساس الاقل كلفة اجتماعية وسياسة والاكثر فعالية اقتصادية ابتداءٍ ومن ثم الاكثر اثر اجتماعياً وسياسياً لاحقاً , في العلوم الاجتماعية لا توجد حلول وردية بدون كلف والوجه الأخر للأختيار بين هذه الحلول هو في الحقيقة اختيار بين الكلف وفي ظل أخفاق الادوات ( المتقدمة) و الاصرار على استمرار اللجوء اليها في مواجهة الازمة فمن المتوقع أن ذلك سيؤدي بلا أدنى الى كلف سياسية واجتماعية قياسية تترافق مع أزمة اقتصادية اشد احراجاً.
للأسف كانت قراءة المقترحات التي اوردناها في حينه قد ذهبت لمناقشة كلفة المقترحات كما ينظر له في ظل الظروف الاعتيادية , كنا قد اقترحنا الاتي :ـــ
1ــ ان يتم دعم البطاقة التموينية بشكل يؤدي الى ضمان حد ادنى لمستوى الاستهلاك للفرد العراقي ولتتوسع لتشمل ثمان مواد أساسية وكافة فئات الشعب , وبالرغم من أن هذا المقترح سيؤدي ربما الى زيادة في حجم الانفاق الا ان انخفاض الاسعار العالمية الذي تشهده اسواق هذهِ السلع الآن وتأمين انتاج من القمح المحلي ( تدفع كلفة بالعملة الوطنية عادةٍ ) مع بذل جهد حقيقي لتقليل فرص الفساد التي يمكن أن تشوب عقود هذه البطاقة , سيؤدي الى تقليل الحاجة الى زيادة الانفاق على البطاقة التموينية الى حد ما , بالإضافة الى أن ما سيسببه توفر هذه المواد من قبل وزارة التجارة الى تقليص في فرص المضاربة على هذه السلع الضرورية في السوق المحلي في حال ارتفاع الاسعار . واذا ما ضمن قانون موازنة عام (2016) اعادة العمل بمضاعفة السماحات الضريبية الخاصة بموظفي الدولة فأن ذلك سيؤدي الى الحفاظ على حد مقبول من الدخل الحقيقي لمحدودي الدخل .
2ــ كان مقترحنا في حينة هو تعديل سعر صرف الدينار العراقي ليصبح مقارباً لسعر صرفة الحقيقي ولو تم الاخذ بذلك في حينه لكان السعر الذي يلبي متطلبات الاصلاح ربما (1500 دينار ) لكل دولار امريكي اما الآن فأن الامر يتعدى ذلك وفقاً لمستوى التوازن الأقتصادي الجديد و لتلبية متطلبات تمويل الموازنة العامة والحاجة الى تغطية جزء مهم من العجز فيها .
كان الرد على هذا المقترح هو ان الامر سيدفع الى مزيد من ارتفاع الاسعار ( التضخم ) وبالتالي فأن محدودي الدخل هم من سيدفعون ثمن ذلك , لذا فقد ترافق مقترحنا في تعديل سعر الصرف بتوفير بطاقة تموينية فعالة , و للأسف لا نتوقع أن تستطيع الجهات العراقية التي تقود التفاوض مع صندوق النقد الدولي من أقناعه بالموافقة على الأخذ بها عراقياً .
الخيار الآن هو بين قبول معدل مرتفع من التضخم والذي يعني بشكل واضح انخفاض في الدخل الحقيقي للمواطن وبخاصة محدود الدخل وبين التوجه الى المجهول في القريب العاجل , التضخم يعني أن سلة خيارات المواطن سوف تتراجع عما قد اعتاده في الظروف السابقة حيثُ سيتركز الانفاق على السلع الاكثر ضرورة . والبديل لذلك هو استمرار الاخذ بالآليات غير الفعالة لمواجهة الازمة , وفي ظل توقع استمرار انخفاض اسعار النفط العالمية قد تكون هذه الدخول ( رواتب ومخصصات ) مهددة فعلاً بالتأكل أما بالتقليص المباشر أو بالمزيد من الضرائب والاستقطاعات والتي لا تعني فقط تقليص الاستهلاك بل وخلق مشاكل اجتماعية في الالتزامات المالية التي اعتاد الموظف عليها ( الايجار , القروض , المصرفية , أجور الدراسة للأبناء .... الخ ) أما على المستوى الاقتصادي الكلي في اقتصاد هو يشكو من انكماش وكساد وبالتالي الى مزيد من كساد وتراجع اقتصادي وهذا ما يلاحظ بالنسبة لمعدل المعلومات التبادلية في الاقتصاد ( تراجع أسعار العقارات , السيارات , الاسهم ..... الخ ) وبالتالي الى مزيد من البطالة في القوى وفرص العمل حتى في القطاعات الخدمية كما في مجال التجارة والنقل .
وقدر تعلق الامر بخطر التضخم المتوقع في حال تغير سعر صرف الدينار العراقي , فقد أشارت آخر بيانات وزارة التخطيط الى بلوغ معدل التضخم السنوي في العراق لنسبة (1,6%) وهذا المعدل يؤشر بكل المقاييس الاقتصادية ببساطة الى أن الاقتصاد يتجه نحو مزيد من الانكماش والتراجع , يعني مزيد من البطالة . في حال توفير حد مقبول من مستوى الاستهلاك الفردي وبخاصة لمحدودي الدخل واصحاب الدخول الواطئة فأن التضخم يعد علاجاً لتنشيط الاقتصاد والقطاعات الحقيقية فيه وبخاصة الصناعات الحرفية والصغيرة والاسرية والقطاع الزراعي أولاً , ثم تبدأ عجلة الانتاج الحقيقي في الاقتصاد خارج النطاق الريعي احادي الجانب .
ان درجة قوة تنافس السلع والخدمات تحددها كلفها والمنعكسة بأسعارها التداولية وفي ظل أسعار الصرف الحالية للدينار فأن كلفة الانتاج العراقي مقدره بالعملة الاجنبية تعد أكبر من كلف السلع المنتجة بالجوار العراقي لذا فأن العراق اصبح سوقاً لهذهِ الدول في كل السلع حتى وان كانت الحدود مؤمنة بحماية جمركية فأن فرق الاسعار كان مجزياً لتحمل درجة المخاطرة في عمليات التهريب خارج الاطر الرسمية .
يقف مع معارضي تغير سعر الصرف من يتوقعون تأثر ودائعهم المصرفية بالدولار أو التزاماتهم الخارجية ازاء عقود بالعملة الوطنية وهذا أمر يمكن معالجته مبكراً من قبل السلطة النقدية والمالية في تقاسم تحمل الضرر المتوقع بأقتراح سعر وسيطاً للتسوية للالتزامات التي تسبق تاريخ تعديل سعر الصرف في حال عدم أمكانية تعويضها كلياً .
الازمة بحاجة الى قرارات جريئة وما لم يتم تعديل سعر الصرف الآن , فربما سعر صرف (2000 دينار ) للدولار الواحد سوف لن يكون مجدياً وعندها سوف نختلف فقط على تاريخ حلول الكارثة التي اتمنى ان لا تكون قريبة ولا ينفع الاعتذار بعدم القدرة على تحمل المسؤولية , وسيتحمل الفقراء كما هو الحال دائماً اسوء آثار ذلك ليلتحق من يستطيع منهم الالتحاق بأفواج المهاجرين مرة أخرى .