الازمات الاستثنائية توجب قرارات استثنائية
16-3-2020 11:58:16 AM
الازمات الاستثنائية توجب قرارات استثنائية
من البديهي ان القرارات المصيرية في حياة الشعوب والدول تكون اكثر جرأة ونضجا عندما يتم اتخاذها في ضوء مناقشات هادئة وفي ظل ظروف طبيعية سيما أذا ما اقترنت بمشاركة واسعة من اصحاب الاختصاص و أصحاب المصلحة في هذه القرارات . ومن البديهي القول ايضا ان وجود الازمات واشتدادها يقلل من فرص التوسع في اشراك الجمهور بصياغة اتخاذ القرارات ولذا تبرز كفاءة متخذ القرار وجرأته، وعندما تغيب البدائل المتاحة ، على متخذ القرار ان يبحث عن معالجات حاسمة لم تكن من معطيات مواجهة الازمة، صحيح ان فيها درجة عالية من المخاطرة ولكنها مفترق تاريخي في حياة الشعوب والدول.
اعتاد العراق ان يعالج ازماته من خلال الوفرة المالية سواء بآليات عملية او هبات ورشى للطبقات والشرائح في ظل دولة بدائية في مؤسساتها الاجتماعية مع هامشية محرك البعد الطبقي فيها واستمرت الوفرة المالية في التماهي في تغييب تنظيم الطبقة الوسطى وتشتتها في العراق بين منتفعين بشكل مشروع وآخر غير مشروع وبين من يعيش على الفتات على امل اتاحة الفرص الافضل له ، واستمرت السلطة منذ مناصفة الارباح في عام 1952 بين مد وجزر في القدرة على لعب هذا الدور وكانت قدرتها في ذلك تحد بعاملين الوفرة المالية (النفطية) وقدرتها القمعية كسلطة حاكمة.
بعد عام 2003 وما شهده النسيج الاجتماعي في العراق من تمزق وما شهدته الادارة الحكومية من اعادة تمحور حول مسميات جديدة (محاصصة ، طائفية ، تحزب .... الخ) ، كانت جميعا تتعايش في ظل وفرة مالية لدى السلطة ، فتضاعف حجم الموازنة العامة خلال عشرة سنوات الى اكثر من خمس مرات و اصبح عدد متخذي القرارات الاقتصادية ليس في الحكومة فقط و انما في كل المجتمع عددا مهولا وامتزجت رؤوس الاموال بالفعل السياسي (المدني منه والمسلح) بشكل مثير للاشمئزاز ، كل ذلك كان ازمات حقيقية وكانت تكفي في اي من المجتمعات الى خلق عشرات من الانتفاضات او الثورات، ولكن استمرار الرعب من القمع حتى في لاوعي المواطن ، مع القدرة المالية على المناورة ، ووجود العامل الخارجي (الاحتلال ، الاختراق ، التواجد الاستخباري ) كل ذلك عطل العوامل الذاتية للتغيير.
لم يعد امام العراق لاعادة بناء مجتمعه اولا ودولته ثانيا الا لغة الحوار وقبول الآخر مهما اختلفنا معه ، الواقع يفرض ذلك وهي ليست نصيحة طوباوية ، الازمة كشفت مكامن الضعف القاتلة في الدولة ولذا نأمل ان نساهم في ما نعتقد انها اشارات عسى ان يجد فيها متخذ القرار الجريء فرصة لانقاذ ما يمكن انقاذه وربما لاعادة البناء بشكل اكثر كفاءة ومدعاة للفخر.
يتفق اغلب المهتمون بالاقتصاد العراقي ان الاقتصاد العراقي يشكو من اختلالات هيكلية ليس ادلها من احادية المورد الاقتصادي وتبديد الموارد الاقتصادية وعدم حسم اختيار الطريق الاقتصادي في البناء (الجميع يدعو الى اقتصاد السوق وكل الادارات تتكلم عن فرص بناء قطاع عام) حيث البطالة واضحة ليس في الموارد فقط بل وفي مستويات مهنية متقدمة ايضا ، خط الفقر دق ناقوس الخطر ، ازمات قطاعية (بنى تحتية ، اسكان ، مستوى صحي ، معدل امية ، اطفال خارج المدارس ، نشاطات نوعية ... الخ).
جاءت الازمة المالية الاخيرة بأنخفاض اسعار النفط (ونحن نعد هذا المقال انخفض سعر البرميل في اقل من 24 ساعة اكثر من خمس دولارات) حيث كان سعر بيع برميل النفط العراقي لشهور شباط، آذار، نيسان 2015 هو(تقريبا 54 ، 50 ، 55 دولار من المنفذ الشمالي و 45 ، 48 ، 51 دولار من المنفذ الجنوبي) على التوالي ، بينما اعتمد سعر 57 دولار للبرميل الواحد في اعداد الموازنة ، لذا من المتوقع حسابيا ان يشكل عجز الموازنة الفعلي اكثر من 20% من حجمها ، وفي ظل استنفاذ المدور من موجودات الخزينة العامة والاقتراض من المصارف ومساهمات البنك المركزي فأن النصف الثاني من هذا العام سيشهد اشكالية حقيقية في تمويل النفقات الجارية فقط لاستمرار عمل الادارة في العراق.
شهدت الساحة الكثير من التنظير الاقتصادي وامتلأت الصحف بمقالات السذج من حسني النية في التطرق الى المشاكل الاقتصادية ولم يكن يبالي البعض بالاثر الذي يمكن ان تثيره اشاعة معينة او تصريح ما في اضطراب اقتصاد هو مضطرب اصلا. كنا نقول دائما ولا زلنا نعتقد ان الاشكالية في الاقتصاد العراقي ليس في التنظير ووصف المشكلة ، حتى مع وجود الرصين من هذا التنظير ، انما الاشكالية في الاقتصاد العراقي هي في ادارة الاقتصاد وبالتحديد في ادارة الموارد بكفاءة ويسبق ذلك بعدالة وامتياز للطبقات الفقيرة صاحبة المصلحة الحقيقية في بناء المستقبل الآمن والمستقر لاجيالها ، في ظل الازمة يفكر الاثرياء والمنتفعين بأرجلهم في حين يدفع الفقراء ثمن هذه الازمة من دمائهم ومن فرص وكرامة ابنائهم.
كنا قد اشرنا ونحن في موقع المسؤولية الى ان المبالغة في صياغة الموازنة العامة بعجز مخطط وغير مبرر هو خطأ في الادارة المالية يقود لا محالة الى ازمة ، حتى وان حافظت اسعار النفط على مستوياتها السابقة (حول 100 دولار للبرميل) ، ولذا فقد حدث العجز الفعلي في عام 2009 وحلت الازمة الخانقة الآن ، كنا نصر في اكثر من مقال ان هذا التوسع في تقديرات الموازنة سوف يقود الى عجز فعلي مع ترافقه دائما بعدم كفاءة في الانفاق، ولذا يتسائل الجمهور مثلا لماذا لم تحل مشكلة الكهرباء رغم المليارات التي انفقت عليها منذ عام 2003 لحد الآن، لماذا تتردى الخدمات الصحية ، لماذا لا نمتلك جيشاً كفوءً ومهنيا ومسلحا بأسلحة تتلائم مع حجم ما انفق عليه ، الجميع يمكنه ان يقدم امثلة هنا او هناك على وجود فساد ولكن الجميع لم ينتبه الى اصل هذه المشكلة وهو استمرار حرص الحكومات المتعاقبة على مزيد من حجم الانفاق دون تتبع لعائده ، ترافقت اعمال الارهاب والعنف في العراق مع غياب وجود موازنة عامة للدولة في عام 2014 لتستمر الحكومة بالانفاق دون حتى وجود لتلك الحدود التي ننتقدها ونعتقد بسلبيتها ، استمر الانفاق واستمرت مقاومة اصدار الموازنة ، وصدرت موازنة 2015 ولم تصدر لحد الآن موازنة عام 2014، ولكان ادنى حد من الشعور بالمسؤولية لدى السلطات المختلفة يوجب اصدار قانون لموازنة 2014 ليؤطر الانفاق الفعلي فقط وليتم دراسة ومناقشة نوع واتجاهات هذا الانفاق الذي قاد الى الازمة (الكارثة) الحالية ، مع ذلك فأن فرص المديونية الخارجية للعراق لتغطية متطلبات الانفاق فيه اصبحت ضيقة الآن ومقابل قرض بمبلغ 800 مليون او مليار دولار من المنظمات الدولية ستفرض على العراق شروطا اقل ما يقال عنها انها مثيرة للاضطراب الاجتماعي اكثر في ظل هذا الظرف مما هو عليه فعلا من اضطراب ، مرة اخرى وكحل آمن (مع درايتنا من ان الخلل في الاقتصاد العراقي هيكلي وليس مالي فقط) فأن على السلطتين المالية والنقدية في العراق الآن ان تدرس بجدية (وبشجاعة) تعديل سعر الصرف للدينار العراقي وبما يتلائم مع سعره الحقيقي لتشغيل الاقتصاد والقطاعات الانتاجية ، نعلم ان ذلك سوف يكون على حساب احلامنا جميعا بقوة الدينار العراقي الذي كان يساوي 3,33 دولار و2,4 جنيه استرليني ، واصبح في عام 1979 دينار ودرهم كويتي ، واعلم جيدا ان القراءة الاولية لما سيرد لاحقا ستستفز المواطن الذي ادعي انني ادافع عنه وهذ الاستفزاز له ما يبرره ، حيث لم يعد لديه القدرة على تحمل مواجهة هذه الظروف بأعباء اضافية ولكني لم اجد الا الاختيار بين الذهاب الى المجهول بهذا المواطن وبين ايجاد حل مكلف له في الامد القصير سواء في ايجاد فرص للعمل او بتنشيط الاقتصاد ككل وان كنت اعتقد ان تخفيف العبء الآني يعتمد على قدرة الحكومة في ايصال الخدمات الى اصحاب المصلحة فيها (رشادة الانفاق) ، مع ان سعر الصرف المذكور(الحلم) يلائم دولة استمرت تصدر النفط لتستورد بضائع والتي ادت باستمرار الى تآكل القطاعات الاقتصادية الحقيقية فيها لمصلحة الانشطة الخدمية او الهامشية المرتبطة بالخارج غالبا ، الا ان الخيار الآن بين سعر صرف مرتفع للدينار العراقي او بناء اقتصاد قوي تعمل به آليات واقتصاد السوق بكفاءة وتعالج جزءا مهما من عجز الموازنة ، لم يعد سعر الصرف 1500 دينار للدولار الواحد الآن كافيا ، ان الاثر الاقتصادي والاجتماعي السلبي لتغيير سعر الصرف بشكل كبير سوف يتم تلمسه من خلال ارتفاع معدلات التضخم في العراق وما ينطوي عليه هذا من زيادة في الضغط على اصحاب الدخول المحدودة والواطئة في المجتمع ، ولمعالجة ذلك يجب في نفس الوقت النظر بجدية الى توفير بطاقة تموينية كفء تحفظ حد ادنى من المستوى المعاشي للمواطن دون الضغط على مستواه الغذائي المنخفض اصلا وسياسة لترشيد الاستيرادات الحكومية بشكل مباشر من خلال استخدام وزارة المالية لحسابها الدولاري مع العالم الخارجي نعتقد ان ذلك ما يمكن الآن في الاجل القصير الوقوف عنده بجدية ولا مناص من مواجهة الازمة، يستطيع البنك المركزي استخدام احتياطه من العملات الاجنبية (الذي يجب ان يكون آخر خط دفاعي يتم اللجوء اليه) بالدفاع عن اي سعر صرف يشاء ولكن الى اي مدى وبأية كلفة ؟ هذا هو المهم. نأمل ان تكون الازمة فرصة للبناء فربما يكون التردي عاملا دافعا لاتخاذ القرارات الشجاعة.
نشر في جريدة المشرق يوم 9/7/2015